المال و تهافت الناس عليه و النظرة الضيقة
عندما أمعنت النظر وجدتُ لكلٍ شيءٍ عدواً إلاّ المال فلم أجد له عدواً ... الكل يجري للحصول عليه و بعض الناس لا يَـفْـرُقُ الجمع عندهم .. أكان المالُ حلالاً أم حراما .
في حين أننا نجد قول الله عز و جل :
" و اعلموا أنما أموالكم و أولادكم فتنة و أن الله عنده أجر عظيم " الأنفال الآية 28
يقال أنَّ المال وسيلة و ليس غاية ولكنني وجدت أنَّ المال لكثيرٍ من الناس غاية و ليس وسيلة .
هناك أشياء لا يأتي بها المال , لنا أنْ نستعرضها على سبيل السرعة :
- الصحة .
هناك الكثير من الأمراض و العياذ بالله لا يوجد لها علاج ناجع . يقف المال عاجزاً أمامها .
- العافية .
يقصد بالعافية قوة الجسم و ضخامة العضلات . هناك من يملك المال و ذا جسمٍ هزيل . لو استطاع لأنفق المال في سبيل ذلك . يقف المال عاجزاً عن تحقيق ذلك لصاحبه .
- السلامة و الإعاقة .
كم من ثريٍ لديه ابن أو بنت معاقة , لو أنفق نصف ماله ما استطاع لها السلامة .
- الشرف .
النقطة لا تحتاج لأي توضيح . فكم من ثريٍ له بنت مومس .
- الكرامة .
الكرامة عكس الإهانة , كثير من أصحاب الأموال تعرضوا يوماً ما لموقف مهين و لم تشفع لهم أموالهم لرد الإهانة .
- العقم و الإنجاب .
هناك حالات أعرفها أنا شخصياً يملكون مليارات الدراهم و لم يرزَقوا الأولاد . يقف المال عاجزاً أمام العقم .
- الأولاد و البنات .
هناك من يملك الأموال الطائلة و وهبه الله فقط ذكور و يتمنى أنْ يُرزَق ببنتٍ واحدة و العكس , هناك من وهبه الله البنات و يتمنى مولوداً ذكراً و لا يتم له ذلك . و تقف الأموال عاجزةً كالمرات السابقة أمام ذلك .
- العلم .
يمكنْ لغنيٍ ما أنْ يشتري شهادة دكتوراه في مجالٍ معيَّن و لكنه لا يستطيع أنْ يشتري العلم . من أراد أنْ يتعلَّم فلا بد من أنْ يدفع الفاتورة و الفاتورة هي التعلم و الجد و الاجتهاد و المثابرة . لا يمكن لأبٍ ثري أنْ يدخل CD به معلومات في رأس ابنه و يقوم بعملية " تنزيل " ( Download ) مهما كان يملك هذا الأب .
- الصفات العقلية .
الصفات العقلية هي الذكاء و الفطنة و سرعة البديهة و المقدرة على الحفظ . فهذه الصفات لا يمكن شراءها بالمال بل هي هبةٌ من الله جل في علاه تأتي نتيجة رافدين , الأول الوراثة و الثاني البيئة .
- الصفات الأخلاقية .
الصفات الأخلاقية هي الدماثة و الشجاعة و الحلم و الصبر و الكرم و الجود و الدهاء و الحكمة , هذه الصفات أيضاً هبة من الله جلَّ جلاله و تأتي من الرافدين الوراثي و البيئي إلاَّ أنَّ للبيئة النصيب الأكبر في تكون هذه الصفات . فمثلاً لو أراد مليونير أنْ يكونَ شجاعاً و هو بالأصل جبان و بذل مجهوده و بذل ماله فلن ينال ما أراد . و يقف المال مثل كل مرَّة عاجزاً دون تحقيق ذلك لصاحبه .
- الصفات الجسمية .
الصفات الجسمية هي طول القامة أو قصرها , عرض الإنسان و نحافته , لون الجلد , جمال الوجه , نعومة الشعر و غيرها , فلو افترضنا أنَّ رجلاً ذا مالٍ قيصرَ القامة فماله لا يمكن أنْ يحل المشكلة .
- الحب .
مهما ملك الإنسان من مال لا يمكن أنْ يجعل الناس تحبه بماله فحب المحيط للإنسان لا يأتي إلاّ انعكاساً لطيب نفسه و تعامله و عدالته , ثم إنَّ هناك حديثاً لسيدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فحواه أنَّ الله إذا أحبَّ عبداً أحبته الملائكة و أحبته الناس بعد ذلك . و حب الله للإنسان لا يأتي إلاّ لمن أخلص حبه لله و عمل صالحاً .
- المجد .
المقصود بالمجد باللغة البسيطة المفهومة " التاريخ المشرف " فكم من ثريٍ يتمنى لو كان أبوه عمر المختار و جده صلاح الدين الأيوبي و جد جده عمر بن الخطاب مثلاً . وكم من ثريٍ تقدم به العمر .. الناسُ لا ترى في تاريخه إلاّ السواد الدامس فتقول الناس .. فلان الله لا يوفقه .. فقد كان ظالماً و خائناً للأمانة و تعاون مع المحتل مثلاً و يتمنى ذلك الثري لو يشترى تاريخاً غير المعروف فلا يستطيع فالتاريخ غير قابل للتغيير .
- الوفاء و الإخلاص و الولاء .
كم رأيتُ في حياتي من عِـبَـرِ الناس الكثير ما جعلني أجزم أنَّ المال لا يمكن أنْ يشتري إخلاص و وفاء المحيط مهما أغدقت من مالٍ حولك . فكم من صديقٍ خان صديقة و كم من زوجٍ خان زوجه و كم من موظَّف خان ولي نعمته. على الرغم من أنَّ أحد الطرفين دفع الكثير للخائن و كذلك تعجز الأموال دون ذلك .
- القوة الجنسية .
كم من ثريٍ يملك الملايين مصاب بالضعف الجنسي و كم من فقيرٍ وهبه الله قوةً في ذلك , ولو كان للثري أنْ يشتري القوة الجنسية لفعل و لكن يقف المال عاجزاً مرةً أخرى دون ذلك .
- قوة التحمُّل .
و أقصد هنا التحمل بشقيه .. التحمل الجسدي و التحمل النفسي . فقوة التحمَّل هي هبة من الله سبحانه و تعالى , فمن الناس ربما يكون ضخم الجسم و ذا مالٍ و لكن ليست لديه قدرةً على التحمل و العكس صحيح ربَّ نحيلٍ كانَ أقدر على التحمُّل من غيره . المال هنا لا يستطيع رفع قدرة الإنسان على التحمُّل .
- قوة الحواس .
المقصود بالحواس هي الحواس الخمس فكم من ثريٍ يعاني من ضعف في التذوق مثلاً .
- المنصب .
المنصب يُقصَد به الدرجة الوظيفيَّة التي يحتاج الناس لصاحبها . كم من ثري سعى ليصبح وزيراً و أقام العزائم و ذبح و سلخ و جامل و ربما دفع الرشاوى لاعتلاء منصب الوزارة و نالها فقيرٌ كتبها الله له .
- الانتماء .
و المقصود بالانتماء هو الانتماء لقبيلة و لعرق و لوطن و لقوميَّة و لأب .
فكم من ثريٍ مجهول الأب يتمنى أنْ ينفق كل ماله ليكون ذا انتماءٍ لأبيه , و كم من هندي على سبيل المثل يتمنى أنْ يكون إنجليزياً و لكن لا يجد له تقبُّل عند الإنجليز حتى و لو حصل على الجنسية , و الوطن إذا ضاع لا يمكن أنْ تناله ثانيةً بمالك حتى و لو كان لك مال قارون .
- الزواج من امرأةٍ بعينها أو رجلٍ بعينه .
كم من فقيرة رفضت ثرياً و فضلت عليه إنساناً عادياً . و كم من ثريةٍ حاولت اجتذاب فقيرٍ لحسنه فرفضها و تزوج من إنسانة ربما تكون أقلَّ من عادية .
- الأمن و الأمان
حدثني أخي خلف يوماً ما عن شخص عربي كان قد هاجر إلى موسكو و عاش فيها طويلاً و كان شديد الثراء تعرَّف عليه في دبي و هو الآن مقيم فيها فسأله أخي قائلاً له ما الذي جعلك تترك العيش في موسكو و تأتي لتقيم في دبي فأجابه بأنَّه كان يملك سيارة مرسيدس يضعها في المرآب ( الكراج ) و بالكراج كاميرة مراقبة تراقب السيارة عن اللصوص و مع ذلك كان ينام قلقاً عليها من السرقة , اليوم يعيش بين المسلمين و لا يخشى من ذلك شيء , الأمن إحساس لا يأتي به المال .
-
الإخلاص .
و في ذلك أتذكر قول الإمام الشافعي رضي الله عنه و أرضاه :
إذا المرءُ لا يرعاك إلاّ تكلفا *** فدعه و لا تكثر عليه التأسفا
ففي الناس أبدالٌ و في الترك راحةٌ *** و في القلبِ سلوٌ للحبيب و لو جفا
فما كل من تهواه يهواك قلبه *** و لا كل من صافيته لك قد صفا
فكم من إنسانٍ أحب محيطه و أخلص له و لم يلقَ الإخلاصُ إخلاصا . فكم من فاضلٍ إبـتُـليَ بزوجةٍ خائنة و العكس و كم من فاضلٍ إبْــتُــلِــيَ بصديقٍ خائن و العكس , و مهما بذل الإنسانُ من مالٍ ابتغاء شراء الإخلاص فلا يمكنه ذلك , فالإخلاص هبة من عند الله جل جلاله .
- الشهرة .
أنا على ثقةٍ تامة بأنَّ الإنسان لا يخلد اسمه بين الناس و لا يكتبه على جدار التاريخ بما كان يملك من مال و إنما يُخلَّد اسمه بما قدمه من أفعال و بقدر ما يضيف للحضارة الإنسانية فخالد بن الوليد و القعقاع و صلاح الدين الأيوبي و عنترة و نابليون و أنشتاين و فرويد أبو الطيب المتنبي و جرير و شكسبير لم يكنْ أياً منهم مليونيراً و لكنهم قدموا الكثير للحضارة الإنسانية و غيروا مجرى التاريخ أماّ قارون الذي خُلِّدَ اسمه في القرآن الكريم فلم يكن ذلك إلاّ للعبرة
- نهاية الخاتمة .
مهما ملك الإنسان من أموال فلا يمكن أنْ يضمن كيف تكون طريقة موته و هل يموت على معصية أو على طاعة .
- الجنة و النار
عند العرض على الواحد الأحد الفرد الصمد يوم القيامة لا يشفع للإنسان ماله و في هذا قال الله تبارك اسمه :
((إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبا و لو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم وما لهم من ناصرين )) سورة آل عمران الآية 91
((ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به وأسروا الندامة لما رأوا العذاب وقضي بينهم بالقسط وهم لا يظلمون )) سورة يونس الآية 54
في الحقيقة أنَّ هناك الكثير من النقاط و لكن يكتفى بالسابق للإيضاح فقط .
بقي أنْ أقول أنَّ المال قد يساعد على الوصول للأهداف المشار إليها بالنقاط أعلاه و لكن لا يأتي بها فالمال يجعلك قادراً على أنْ تضع حرّاساً حول بيتك و لكن لا يأتي لك بالأمن و الإحساس بالأمان .
و بالمال يمكنك أنْ تتصدق و تنفق في سبيل الله و لكن لا يضمن لك الجنة .
و بالمال يمكنك شراء المقويات الجنسية مثل فياجرا و سيالس و غيرها و لكن ليس المفتعل كالطبيعي و ليس المؤقت كالدائم . علاوةً على ذلك فإنَّ المقويات الجنسية لها مضارها و أعراضها الجانبية .
و بالمال يمكنك الانتساب لأفضل المدارس و أرقى الجامعات و لكنك لا تستطيع شراء العلم نفسه .
المال يا إخواني قد يساعدك و لكن لا يضمن لك الوصول للأهداف لذلك هو وسيلة .
كما أني أحب أنْ أوضِّح نقطة غاية في الأهمية , و هي الفرق بين الثري و الغني .
فالثري من زادة أمواله و الغني من استغنى عن الناس.... تمعَّن في المفارقة ... سترى في الناس من هم يبحثون عن الزكاة و هم أثرياء لا يستحقونها لا عرفاً و لا شرعاً , و ستجد أناساً من أبسط الناس و ربما من المستحقين للزكاة من يرفضونها .
الغنى هو غنى النفس و الفقر هو فقر النفس و ما هناك ترادف بين مصطلح (( الثراء )) و (( الغنى )) و لكن الناس تخلط .
تنافس الناس على المال نابع من حبه , و ليس في ذلك شيء , المؤلم تقاتل الناس عليه و تجردهم من مبادئهم عندما يتعلق الأمر بالمال و في هذا الصدد أتذكر قول المتنبي :
ومراد النفوس أصغر من أن نتعادى فيه وأن نـتـفانى
قال أحدهم : تذهب الصحة في طريق الحصول على المال , ثم نعود فننفق المال لاسترجاع الصحة . فهل ترجع ؟
ثم إنَّ الحياةَ قصيرةٌ و لم نسمع عن إنسانٍ مات و أخذَ ماله إلى قبره ذلك المال الذي قاتل الناس عليه في حياته .
إذا كان المال لا يأتي بالنقاط المذكورة في مستهل حديثنا و هي تشكِّل أهم ما في حياتنا فهل يستحق المال الدوس على المباديء السامية و القيم النبيلة و ظلم الناس للحصول عليها .
الإجابة على هذا التساؤل يحتاج إلى وقفة مع الذات و التفكر .
الأحد 10-8-2008 بو بطي |