التقديرات الخاطئة

التقديرات الخاطئة

إذا لم نقل كل ... فمعظم المصائب و المشاكل التي تـقـع على الإنسان أساسها سوء التـقـدير ... سواءً أ كان على مستوى الفرد أو على مستوى الدولة.

و سوء التقدير ينقسم إلى 3 و هي كما يلي:

1.    سوء تقدير الذات.

2.    سوء تقدير الطرف الآخر أو الخصم.

3.    سوء تقدير المحيط.

و سوء التقدير يعود في أساسه لسوء الفهم و القراءة الخاطئة للواقع. فكلما أحسن الإنسان قراءته للواقع و استطاع فهم المعطيات و مراكز القوة أفضل كلما استطاع أنْ يحسن توقعاته للمستقبل .

خاضت مصر عدة حروب مع إسرائيل كانت نتائجها على غير التوقعات . ففي حرب النكسة سنة 1967 أو ما يطلق عليها حرب الستة أيام لم تحسن القيادة المصرية تقدير الأمور .

فلم يتم تقدير الذات بشكل جيّد سواء على مستوى التسليح أو على مستوى القيادات و كذلك سوء تقدير لقوة العدو و ساد اعتقاد عام بأنَّ العرب أصبحوا أقوياء بما يكفي لسحق العدو و كان هناك سوء تقدير للمحيط إذْ ظنَّت القيادة المصرية أنَّ المؤازرة و المساندة و النصرة ستأتي من الدول العربية على ما تتوقع و في الوقت نفسه ظنَّتْ أنَّ أنصار إسرائيل ربما يلتزمون الحياد .

لقد كانت كل التقديرات خاطئة لذلك كانت النتائج مأساوية . إذْ تبيَّن للعرب و القيادة المصرية أنَّ تقديرهم لذاتهم كان مبالغاً فيه و تقديرهم للعدو كانت مستنقصاً و تقديرهم للمحيط كان ضالاً . إذْ لم ترق مساندة الدول العربية لطموحات القيادة المصرية رغم مشاركة سوريا في الحرب من جهتها و لم تلتزم أمريكا الحياد في الحرب إذْ انطلقت المقاتلات الجوية من القاعدتين العسكريتين الليبيتين ( قاعدة العدم و قاعدة هويلز ) اللتان كانتا مستخدمتين من قبل القوات الأمريكية آنها لمساندة حليفتها الأولى إسرائيل.

ما ينطبق على الدول ينطبق على الأفراد و ما أخطأت أي دولة في تقديراتها إلاّ و كان الفرد أكثر عرضةً للخطأ في تقديراته.

و معظم النكسات التي يتعرض لها الإنسان في حياته هي نتيجة سوء تقديراته سواءً على مستوى الخصومة أو على مستوى التعامل أو على مستوى الدين.

قال الله جل في علاه في محكم كتابه:

(( وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ  )) 29 الأنعام

(( وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ )) 80 البقرة

لا حظ عزيزي القارئ أنَّ تقدير الأمور عند الكفار تقدير خاطئ فأكثرهم يعتقدون أنَّ الحياة هي فقط الحياة الدنيا . و أمّا من كان في قلبه شك من البعث فقال ... لن تمسنا النار إلاّ أياماً معدودة.

و سوء التقدير أيضاً يحتل مساحةً واسعة في تعاملات الإنسان مع الإنسان و تعاملات الإنسان مع المادة .... من الأخذ و الترك و الإقدام و الإدبار و القبول و الرفض و اللطف و الجفاف و اللين و الشدة و الإبتسامة و العبوس.

 

أولاً : في تعاملات الإنسان مع الإنسان.    

فكم من إنسان ندم على تعامله السيئ مع إنسانٍ آخر أصبح في ما بعد في موقع الصدارة فندم أنْ ترك صداقته و لم يأخذ بها و ندم أنْ أدبر عنه و لم يقبل عليه و ندم أنْ كان جافاً معه و لم يكن لطيفاً و ندم أنْ كان شديداً و لم يكن لينناً و ندم أنْ كان عبوساً معه و لم يكن مبتسماً.

 

ثانياً : في تعاملات الإنسان مع المادة.

فكم من موظفٍ ندم على العرض الوظيفي الذي سبق و أنْ قُدِّمَ له و فضل وظيفته التي هو فيها الآن و كم من تاجر ندم على تفويت فرصة عقد صفقة ما و الأمثلة كثيرة.

قال الله جل في علاه:

(( قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا ولا ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْـتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ  )) 188 الأعراف

فعنصر التقدير له انعكاساتٌ جداً خطيرة في حياة الإنسان ... حتى الخيانات التي يتعرض لها الإنسان أساسها سوء التقدير في حجم الثقة الممنوحة للطرف الآخر فكثيراً ما نسمع أنَّ إنساناً ما استأمن صاحبه مبلغاً من المال ثم أنكره عليه و كثيراً ما نسمع أنَّ إنساناً خسر جزءً من ممتلكاته لأنه منح ( توكيل عام أو خاص ) لأحد الناس و كثيراً ما نسمع أنَّ إنساناً استأمنَ صاحبه سراً فأشاعه.

النسبية في تـقـدير     

يبقى أنْ أشير إلى نقطة غاية في الأهمية و هي أنَّ سوء التقدير قد يقع فيه أكثر الناس حنكةً و ذكاءً و أنَّ ما من أحدٍ معصومٌ من سوء التقدير إلاّ أنَّ سوء التقدير (( نسبي )) فهناك أمور مقبولة و هناك أمور غير مقبولة.

فعندما أفكر في أنْ أستأمن صاحبي على مبلغٍ من المال فإنَّ مبلغ المال المستَأمَنْ هو الفيصل. فإذا كان المبلغ هو 10,000 درهم فلا بأس ولكن إذا كان المبلغ 1,000,000 درهم فمن المحتمل جداً أنْ لا أرى مالي ثانيةً بعد اليوم و إنْ كانت ثقتي كبيرة في صديقي.

إنَّ معظم القضايا المرفوعة في المحاكم كان سببها الأول هو سوء التقدير أو وضع الثقة في من لا يستحقها و هي ناجمة أيضاً عن سوء التقدير.

إنَّ سورة الفاتحة التي نقرؤها كل يوم تؤكد على وجوب طلب الهداية من الله عز و جل :

(( بسم الله الرحمن الرحيم 1 الحمدُ للهِ رَبِّ العالمين 2 الرحمنِ الرحيم 3 ملك يومِ الدين 4 إيّاكَ نَعْبُدُ و إيّاكَ نسْتَعين 5 اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ 6 .. )) الفاتحة

فعنصر التقدير الذي نتحدث عنه يحتاج إلى جانب الهداية من الله سبحانه و تعالى فمن اعتمد على عقله فقط في تقدير الأمور فهو معرَّض جداً للوقوع في الخطأ و من ثم دفع فواتير باهظة الثمن , لذلك من الواجب على الإنسان طلب الهداية من الله ليس فقط في أمور الدين بل حتى في أمور الدنيا . و قد أوصى الرسول الكريم أبو القاسم صلى الله عليه و سلَّم بصلاة الاستخارة التي أعتبرها صلاةً لله لطلب الهداية و التوفيق في أمرٍ محيَّر يحتمل عدَّة بدائل.

الفرق بين سوء التقدير و سوء الظن

قال الله عز و جل (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ  )) الحجرات 12

لطالما كنت أجادل أبي العزيز حفظه الله فكنت أقول له إنَّ مبدأي في الحياة هو أنني أفترض حسن النية في الآخرين حتى يثبت العكس و لا أفترض سوء النية حتى يثبت العكس. و كان يرد علي فيقول ( سوء النية عصمة ) بمعنى ... لا تثق في الناس كثيراً .

صحيح أنني دفعت فواتير باهظة مقابل تمسكي باعتقادي لكن لا أزال متمسكاً به رغم الطعنات التي تلقيتها في ظهري ممن أحببتهم يوماً ما .

إنَّ سوء الظن يحتمل الإثم ولكن سوء التقدير غالباً ما يعرّض صاحبه لخسائر جمّة.

كما أنَّ سوء الظن يستند للوسوسة و سوء التقدير يستند للقراءات الخاطئة للواقع.

تذبذب التقديرات بين السوء و الحسن

بسبب عمليات إعادة التقدير ( Recalculate ) التي تتصف بالديمومة و المترافقة مع عمر الإنسان فإنَّ النتائج التي يتوصل لها الإنسان بين فترةٍ زمنيةٍ و أخرى عادةً ما تشهد تغيرات بين الطفيفة و الحادة.

و ترتبط النتائج بالسلوك ارتباطاً وثيقاً, وللتسهيل ... إذا افترضنا أنَّ ( س ) من الناس يعتقد أنَّ ( ص ) من الناس ليس ذو منفعة ... لا آنيَّة و لا مستقبليَّة فمن المتوقَّع أنْ تشهد العلاقة بروداً ملحوظاً , و إذا ما قام ( س ) بعملية إعادة التقدير بناءً على تغيّر المعـطيات و تبيّن له أنَّ ( ص ) من المحتمل جداً أنْ يصبحاً وزيراً لإحدى الوزارات فمن المتوقَّع أنَّ ( س ) يغيّر من سلوكه نحو ( ص ) و يبادر بعمليات ترميم العلاقة التي بدا عليها الكثير من الغبار , لذلك فإنَّ أحد الذين يظلهم الله تحت ظله يوم لا ظل إلاّ ظله رجلٌ أقام علاقة صداقة بحيث لا يتحرى منه أي مصلحة ... لا آنيَّة و لا مستقبليَّة . فقط العلاقة لوجه الله تبارك و تعالى.

الخلاصة:       

من يستطيع قراءة الماضي و يستطيع فهم الحاضر كانت تقديراته أقرب للصواب

فقد أورد الله عز و جل الجزء التالي في خمس آياتٍ متفرقات في القرآن الكريم:

((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ... )) الروم 9

((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ... )) فاطر 44

((أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ... )) غافر 21

((أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ... )) غافر 82

((أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ ... )) محمد 10

نفهم من هذا أنَّ هناك توجيه من الله جل في علاه بضرورة معرفة الماضي و التفكر فيه لنحسن تقدير أمورنا.

أسأل الله المغفرة لي و لكم و للمؤمنين الأحياء منهم و الأموات. و الهداية في كل الأمور.

محمد بن سيف  العتيبة  بو بطي  29-9-2011 م الخميس   00971506255599

عزيزي القارء إذا أعجبك المقال فيمكنك تنزيله بصيغة بي دي أف بالضغط على الصورة أدناه

 

تعليقات زوار الموقع على المقالة
   

 زوار اليوم:

140

 العدد الكلي:

986910

الرئيسية ::الشعر ::المقالات ::المؤلفات ::أفكار ::سجل الزوار ::صور ::مواقع ::استطلاع ::إحصاءات ::فيديو ::راسلني

© جميع الحقوق محفوظة لموقع الشاعر محمد بن سيف العتيبة 2024 الموقع الفرعي