التوازن بين القوة و التحكم في غياب البصيرة و حضورها
مقدمة :
يعيش الإنسان و تراود ناظريه مجموعة من الأهداف يكون كلها إذا لم نقل معظمها مشتقاً من حاجاته و إذا ما رجعنا لهرم (( ماسلو )) للحاجات
فإننا نلاحظ ما يلي :
1. الحاجات التي يحتاجها الإنسان لكي يعيش و يستمر نسله هي الحاجات الفيسيولوجية مثل الحاجة لـ : الطعام و الشراب و السكن و اللباس و الجماع و التدفئة ...
2. الأمن .. الذي هو غاية في الأهمية للإنسان , و من الملفت للإنتباه أنَّ ترتيب هرم (( ماسلو )) جاء متوافقاً مع الترتيب الذي جاء في سورة قريش حيث قال تعالى (( لإيلافِ قريشٍ 1 إِلافهم رحلة الشتاء و الصيف 2 فليعبدوا رب هذا البيتِ 3 الذي أطعمهم من جوعٍ و آمنهم من خوف 4 )) مما يؤكد صحة النظرية في هذا الجزء .
3. الإنتماء . فالإنتماء مهم جداً للإستقرار النفسي فالإنسان محتاج للانتماء لوطن و لعرق و لدين و لدولة و لقبيلة و لأسرة بل إنَّ بعض الناس ذهب لأبعد من ذلك إذ أنَّ الحاجة للإنتماء جعلتهم من حيث لا يشعرون ينتمون لحزبٍ معين أو طائفة معينة أو حتى نادي كرة قدم .
4. التقدير . فالتقدير و الإحترام مطلب و هدف لكل الناس .
5. تحقيق الذات و يعني وصول الإنسان لأهداف خاصة به هو و لا يشترك معه فيها كل الناس مثل : أنْ يكون الشخص سباحاً ماهراً أو يتمكن من إنجاز عملٍ معين كأن يتمكن من كتابة كتاب أو بناء عيادة خيرية . و تلاحظ هنا أنَّ هذه الأهداف خاص و ليس عامة كما هو الحال في باقي درجات هرم ماسلو . أي كل شخص يختلف عن الثاني .
و على الرغم من أنَّ نظرية ماسلو تدرَّس في الجامعات إلاّ أنها تبقى معيبة و من عيوبها أنّها تفترض عدم إمكانية إشباع حاجة أعلى إلاّ بعد إشباع الحاجة الأدنى و هذا غير صحيح فمن الممكن أنْ لا يشبع الإنسان و لا يرتوي و في نفس الوقت يشعر بالأمان , و معيبة أيضاً هذه النظرية إذ لم تذكر حاجة الإنسان لعبادة الله فعبادة الله تؤدي إلى الراحة النفسية و الوقاية من عذاب النار و دخول الجنة و لذلك خلقنا و الحاجة لعبادة الله عز و جل أهم من الـ 5 حاجات المذكورة في الهرم .
عموماً أنا لست في موضع تفصيل للنظرية بقدر ما يهمني أنْ ألقي الضوء على تطابق الحاجات و الأهداف .
تشكل الرواسخ الإيمانية و المعتقدات المتحكم الأول في تشكيل سلوكيات الإنسان بصورتها العامة و تأتي الشهوات كمتحكمٍ ثانٍ فيها ثم الفطرة . و هنا يجب أنْ نعلم أنّ المتحكم الأول مكتسب و المتحكم الثاني نفسي شيطاني و الثالث فطري تلقائي جبري . و هذا اشتقاقٌ لكون للسلوك رافدان هما : 1) البيئة 2) الوراثة .
و لتمثيل ما سبق توضيحاً .. تجد شخصاً ما مصاب بالسكر مؤمن و مقتنع أنَّ تناول الأطعمة التي تحتوى على سكريات مضر لصحته و لكنه يشتهي تلك الأطعمة و يتناول القليل منها . المعتقد يميل به لترك تناول السكريات ( المتحكم الأول ) و النفس و الشيطان ( المتحكم الثاني ) يميلان به لتناوله .
مما يشير لتواصل الصراع بين الخير و الشر .
أما السلوك الفطري فيكمن في الأمثلة التالية :
1) عندما تتعرض العين للضوء فإنَّ القرنية تضيق لتقليل كمية الضوء الداخلة للعين .
2) عندما تحرق السيجارة يد الإنسان فإنه يسحبها بسرعة .
3) عندما يتعرض الإنسان للحر فإنه يعرق .
أنَّ السلوكيات أعلاه فطرية و تلقائية و جبرية أي لا يستطيع الإنسان التحكم فيها .
الدخول في الموضوع :
القوة و التحكم يقودان للوصول للأهداف التي شرحناها في المقدمة لاسيما تلك الأهداف التي تشكلها المعتقدات و هنا تبرز أهمية التوازن بين القوة و التحكم , فالقوة بلا تحكم متخبطة و التحكم بلا قوة عجز و إذا زادت القوة على التحكم أدى للإنحراف و إذا زاد التحكم على القوة أدى للبطء .
مثل : شخص اسمه ( خالد ) و في وسط الخليج العربي و في طراد بمحرك و لديه وقود و يهدف للوصول لدبي ماذا سيفعل ؟ بكل بساطة سيدير المحرك و يتولّى الدفة لتوجيه الطراد لهدفه .
تخيلوا الآن أنَّ ( خالد ) في الحالات المذكورة أدناه ...
الحالة الأولى القوة بلا تحكم : تتمثل في أنَّ الطراد يسير في البحر و الدفة مكسورة و بالتالي الطراد يسير حيث يشاء و هذا ما يطلق عليه بالتخبط .
الحالة الثانية التحكم بلا قوة : تتمثل في أنَّ الطراد موجود في عرض الخليج و المحرك متعطل و يؤدي ذلك لعجز ( خالد ) عن الوصول لليابسة .و هذا ما يطلق عليه بالعجز .
الحالة الثالثة ازدياد القوة على التحكم : و تتمثل في أنَّ ( خالد ) ثمل و يتولى القيادة ( يعني سكران ) و هذا الأمر من المحتمل جداً أنْ يؤدي بخالد للوصول إلى إيران مثلاً بدلاً من وصوله إلى دبي حيث يهدف . و هذا ما يطلق عليه بالإنحراف .
الحالة الرابعة ازدياد التحكم على القوة : و تتمثل الحالة في أنَّ خالد سليم و صحيح العقل و يستطيع التحكم بدفة الطراد و لكن المحرك ضعيف . مما سيؤدي للسير نحو الهدف ببطء شديد و استغراق وقت طويل . و هذا ما يطلق عليه بالأناة .
من المؤكد أنَّ الحالة الرابعة ( الأناه ) أفضل من الثلاث حالات الأولى و هي التخبط و و العجز و الإنحراف و لكن الحالة الخامسة هي أفضل الجميع و هي :
التوازن بين القوة و التحكم الذي هو نصف عنوان مقال اليوم .
لعل المثل الذي أتيت به و هو خالد و الطراد و الخليج العربي و الهدف ( دبي ) مثلاً بسيطاً و ما هو إلاّ لتوضيح الفكرة و لكن الأمر غاية في المتعة عندما تطبق ذلك على أهدافك النابعة من معتقداتك .
نأتي للجزء الثاني من عنوان المقال و هو ((في غياب البصيرة و حضورها )) و قبل البدء علينا تعريف البصيرة و التفريق بينها و بين البصر .
البصر : أحد الحواس الخمس . إذ يجمع البصر المعلومات و يغذي بها العقل الذي يقوم بتحليلها و الاستفادة . و البصر لا يأتي إلاّ بمحيط الإنسان في أقصاه و لا يأتي بما غاب من ماضي أو حاضر أو مستقبل . بخلاف البصيرة .
البصيرة : هي مدى مقدرة الإنسان على الوعي و إدراك الأشياء و الأمور بقلبه لا بصره . أي إعمال العقل في فهم و استنباط الأمور و مجرياتها استقاءً من التجارب السابقة و معطيات الحاضر . و التبصر يقود في الغالب إلى البصيرة .
و هذا يذكرني تماماً بالقصة الشهيرة التي دارت بين معلم غبي و طالب ذكي ... إذْ قال المعلم لتلاميذه ( شيءً لم تره لا يمكنك التسليم به فأنت لا تؤمن إلاّ بما تراه بعينك و تسلم به ) , فقام له أحد التلاميذ الموفقين فقال له ( هل رأيت عقلك أو مخك ) قال المعلم ( لا ) رد عليه التلميذ قائلاً ( فأنت لا عقل لك ) . و أتذكر كذلك مقولة الأعرابي التي تنم عن بصرٍ و بصيرةٍ ثاقبة . إذْ قال : ( البعرة تدل على البعير ... و الأثر يدل على المسير ... فسماءٌ ذاتُ أبراج ... و أرضٌ ذاتُ فجاج ... ألا تدل على العليم الخبير ؟ ) فهنا نجد أنَّ الأعرابي تبصَّر و تأمل في خلق الله جل جلاله و أكد وجوده استنباطاً ... فتلك هي البصيرة .
و لذلك قال الله جلَّ في علاه :
((فَإنَّها لا تَعْمى الأبْصار ولكن تَعْمى القُلوبُ التي في الصُّدور)) الحج 46
و هنا سنبدأ بأهم جزء بالمقال و هو إعمال البصر و البصيرة في تحديد صحة الأهداف قبل السعي نحوها أو مقاتلة الآخرين في سبيل إقناعهم بصحة و سلامة الأهداف التي هي كما أشرنا تشكلت بفعل المعتقدات و الإيمان بفكر أو قضية أو معتقد.
في أعقاب انهيار الحكم القيصري في روسيا سنة 1917 إثر الثورة البلشفية بقيادة فلاديمير لينين ساد الفكر الاشتراكي الشيوعي في تلك المنطقة و بدأ بالتغلغل في الدول المحيطة على خلفية الكتاب الذي كتبه الألماني ( كارل ماركوس ) الذي عاش ما بين 1818 و 1883 و الذي عرض فيه الفكر الاشتراكي الشيوعي بأسلوبٍ رائع و مقنع بدت فيه الأفكار باللون الوردي المشرق إذْ نادى الفكر إلى مجانية التعليم و الصحة حتى للعاطلين عن العمل كما تتولى الحكومة توظيف أبنائها و نادى الفكر كذلك بالقضاء على الملكية الخاصة إلاّ في حدود الإحتياجات المعيشيّة بتمدد الملكية الحكومية و قال الكاتب بأنَّ تطبيق الفكر الشيوعي الإشتراكي سيسهم في القضاء على الطبقية في المجتمع و تحقيق المساواة و ما إلى ذلك من أفكار جميلة .
و بعد هدوء عاصفة الحرب العالمية الثانية التي انتهت في سنة 1945 بدأ النظام العالمي الجديد بالتشكل و بدأت السوفيت بقيادة العالم الشيوعي الإشتراكي و محاولة نشر أفكاره لاسيما في الدول المجاورة بينما تولت الولايات المتحدة الأمريكية قيادة العالم الرأسمالي و انقسم العالم إلى المعسكرين و بدأت الحرب الباردة , بينما فضلت بعض الدول عدم الإنجراف لأيٍ من الطرفين و سميت بـ ( دول عدم الإنحياز ) .
كان الروس يقولون أنَّ فكرنا هو الأصح و الأنجع للتطبيق و كان الأميركيون يقولون نفس الكلام عن فكرهم و معتقداتهم و تطور النزاع في بعض مراحله ليأخذ أبعاداً عسكرية في كوبا و في أفغانستان و في فيتنام و غيرها . و أتذكر في هذا الصدد قول الله تعالى :
(( كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ )) الروم 32
و مرت السنين و بعد أحقابٍ من التطبيق تبين للروس أن معتقدهم و فكرهم الذي كانوا يدافعون عنه بل و خاضوا حروباً لأجل إقناع العالم به و نشره كان فكراً نظرياً تطبيقه لا يوصل للأهداف بل يوصل للتخلف .
و بدون أنْ أدخل في أسباب انهيار الفكر الشيوعي الإشتراكي و الذي عزاه بعض المفكرين في أحد أهم أسبابه إلى افتقار الفكر الشيوعي لروح العمل و الإبداع بانتزاع الملكية الخاصة من المواطن للحكومة فقد أثبتت النتيجة فشل النظرية و لم يكن العيب في التطبيق .
فبعد انتصار الحلفاء على دول المحور في الحرب العالمية الثانية تم اقتسام ألمانيا بين المعسكرين فهيمنت روسيا على ألمانيا الشرقية و هيمنت أمريكا على ألمانيا الغربية , في بداية الهيمنة كان مستوى ألمانيا الشرقية و الغربية نفس المستوى على جميع الأصعدة و بمرور السنين تحت المظلتين الشيوعية الإشتراكية و الرأسمالية بدأت النتائج تظهر للناس و بدأ الثلج يذوب و ينكشف ما تحته . ألمانيا الشرقية متخلفة و ألمانيا الغربية متقدمة و الفجوة عميقة و بدأ روّاد الفكر الشيوعي بالتنازل التدريجي عن تمسكهم بالفكر إلى أن هدم جدار برلين الذي كان يقسم العاصمة الألمانية لجزئين شرقي و غربي سنة 1989 في تلك السنة هرب جورباتشوف إلى أمريكا و خلّف وراءه اقتصاداً ضعيفاً ما لبث أن شارف على الإنهيار , أعلنت روسيا بعد ذلك عن تخليها عن الفكر الشيوعي و اقتناعها بالفكر الرأسمالي و انفتاحها على العالم . لكن بعد ماذا ؟
خلاصة مقالي :
قبل أن يحمل الإنسان السيف و يقاتل عن معتقداته أو يحاول نشرها عليه التبصر و محاولة مراجعة نفسه ... و يسألها : هل أنا على حق أم على باطل ؟ فإذا كانت الدول قد التبس عليها الصح و الخطأ بكل أفرادها و مفكريها و مؤسساتها التعليمية و الإجتماعية و العسكرية فمن الأكثر احتمالاً أنْ يلتبس الصح و الخطأ على الإنسان العادي.
و من نقطة النهاية أعود إلى نقطة البداية .... على الإنسان محاولة صنع التوازن بين القوة و التحكم في حضور البصيرة و ليس غيابها .
أسئل الله العلي القدير لي و لكم البصر و البصيرة و التوفيق و السداد .
أخوكم / بو بطي الأربعاء 25/8/2010 م
عزيزي القارئ إذا أردت تنزيل المقال كـ PDF فاضغط على الصورة أدناه
|