الأهداف بين التأرجح و الضبابية
كنتُ دائماً أرحب بأي علاقةٍ جديدة بغض النظر عن الجنسية و اللون و الدين و العرق و المذهب و السن و المستوى الاجتماعي و الاقتصادي و الفكري فخلال ما خلى من عمري تكونت لي علاقات كثيرة تذبذبت تدرجاً بين المعرفة و الزمالة و الصحبة و الصداقة و المؤاخاة فقد تكونت لي علاقة مع الإماراتي و غير الإماراتي و الأبيض و الأسود و المسلم و المسيحي و اليهودي و الملحد و المشرك و العربي و غير العربي و السني و الشيعي و المراهقين و الشباب و الرجال و الشيوخ و الأثرياء و الفقراء و المتعلمين و أنصافهم و الجهلة ... و كنت دائماً أتمتع بكل علاقة جديدة و بالذات تلك التي تكون نادرة فالعلاقة مع المسلم تمتعني و لكن العلاقة مع اليهودي تمتعني أكثر و العلاقة مع الجاهل تمتعني و العلاقة مع الدكاترة و المفكرين تمتعني أكثر و هكذا ... كلما تميَّزت الشخصية الجديدة كلما كان ذلك ممتعاً لي أكثر. إذْ أنَّ كل علاقةٍ جديدةٍ مع شخصٍ جديد ٍ تُمثِّلُ لي نافذةً تطل بي على ثقافةٍ غامضة و رؤيةٍ جديدة فعندما تنشأ لي علاقة مع الملحد أفهم عبر عدّة لقاءاتٍ كيف يفكِّر و ماذا يهدف و ما هي أساليبه للوصول لأهدافه و كذلك الحال بالنسبة لباقي العلاقات , فآخذْ ما ينفعني و أترك الهراء و إذا شرح الله صدره لي فيمكنني تغييره لدرجةٍ لم يكن يتصورها هو عند أول لقاءٍ له معي بالمنطق السليم و ليس بالعاطفة العمياء .
و من بين ما لفت انـتباهي خلال تلك المسيرة ضبابية الأهداف و تأرجحها بين عدة بدائل يجمعها التقارب أحياناً و يفرقها التباعد في أحيانٍ أخرى و تقترب من الانعدام في حالاتٍ نادرة .
تنقسم الأهداف زمنياً إلى :
1) أهداف قصيرة المدى .
2) أهداف متوسطة المدى .
3) أهداف بعيدة المدى .
كما تنقسم الأهداف نوعياً إلى :
1) أهداف مرحلية .
2) أهداف نهائية .
و تنقسم الأهداف لزمياً إلى :
1) أهداف طوعية اختيارية .
2) أهداف جبرية قصرية .
فالأهداف التي توصف بأنها قصيرة المدى تلك التي تميّز بأنها قصيرةٌ نسبةً لمتوسط عمر الإنسان و عادةً ما يكون مداها الزمني يوم إلى أسبوع كأنْ ينوي الإنسان قضاء عطلة نهاية الأسبوع في المزرعة مع أهله مثلاً و هي تتميز كذلك بدقة التوقيت و وضوح المخطط بخلاف الأهداف المتوسطة المدى التي لا يمكن معها تحديد التوقيت بنفس الدقة و لا المخطط فعلى سبيل المثل لا يمكن أنْ أتواعد مع أحد أصدقائي و يكون الموعد الساعة 4:30 م يوم الجمعة 30/9/2011 في شارع الضيافة في " مطعم الطازج " و تاريخ اليوم 28/9/2010 م ويكون الإلتزام بحضور الموعد بنفس الدقة , أمّا الأهداف بعيدة المدى فهي غالباً ما تكون من 5 سنوات فأكثر و يغلب عليها احتمالية التأرجح للوصول لنتائج متقاربة غير مؤكدة , كأنْ أهدف إلى إنشاء " مؤسسة صيانة عامة " بعد 7 سنوات من اليوم و عند اقتراب الأجل المرسوم أجد أنَّ المسار الذي وضعته لنفسي للوصول لهدفي المنشود قد انحرف بي قليلاً فبدل إنشاء تلك المؤسسة أجد نفسي أميل إلى إنشاء " مكتب استشارات هندسية ". لاحظ انحراف الهدف و لكن بقي الهدف الكامن موجود و هو القيام بعمل تجاري . و من المحتمل جداً عدم تحقيق الهدف لأنَّ المدة الزمنية كلما طالت كلما كان ذلك أدعى لدخول متغيرات لم تكن بالحسبان . بالنسبة لي أرى أوضح الأهداف هي الأهداف بعيدة المدى و أراها نصب عيني ثلاثة و هي ( رضا الله عز و جل و الوقاية من عذاب النار و دخول الجنة ) فإذا تحققت هذه الأهداف الثلاثة إنقطعت الأهداف أي لا أهداف بعدها .
و عندما نتحدث عن الأهداف نوعياً فإنَّ هناك تمازجاً عجيباً بينها فالأهداف المرحلية هي التي توصلك للأهداف النهائية و لكن تجد أنَّ الأهداف النهائية إذا ما أمعنت النظر فيها هي نفسُها مرحلية لأهدافٍ أخرى أبعد و أشمل لتشكل في مجموعها و تسلسلها أهدافاً مستديمة لا تكاد تنقطع . فعلى سبيل المثل يهدف الإنسان لإنهاء دراسته الجامعية و يتعامل مع هذا الهدف وكأنه هدفٌ نهائي و عند تحقـقه ينشأ هدف آخر و هو الانخراط في العمل و عند تحقـق الهدف ينشأ هدف آخر و هو الإصلاح و التطوير و هكذا مروراً بمرحلة الزواج و الإنجاب .... الخ .
و عندما نتحدَّث عن الأهداف الإلزامية و الاختيارية فأنَّ الحديث قد يجاوز المخطط له و لكن بكل اختصار فإنَّ الأهداف الإلزامية هي الأهداف التي لا يملك الإنسان خياراً آخر فيها و بالتالي المفاضلة , و تشكل قاعدة هرم ماسلو المتمثلة في الحاجات الفيسيولوجية أبرز و أوضح الأمثلة على ذلك فالإنسان يهدف إلى الأكل و الشرب لكي يعيش و لا يملك شطب هذا الهدف أو استبداله بهدف آخر لأنَّ الإمتناع عن الأكل و الشرب يفضي للموت , أمّا الأهداف الاختيارية فهي تلك الأهداف التي يوجد لها بدائل مماثلة فعلى سبيل المثل أنا أهدف للإستمتاع بوقتي عصر الجمعة لدي بدائل لا حصر لها للوصول للهدف المرسوم فيمكنني الذهاب للبحر للسباحة أو مشاهدة التلفزيون أو ... أو... الخ
و تتأثر الأهداف التي تتكون لدى الإنسان بعوامل عديدة أهمها ما يلي :
1) المعتقدات الدينية و المذهبية .
2) الإنتماءات العرقية و الطائفية و الوطنية و الفكرية .
3) المبادئ المستـقاة من :
a. بيئة البيت .
b. بيئة المدرسة و مناهجها الدراسية .
c. بيئة الأصدقاء و زملاء العمل .
d. درجة انفتاح المجتمع ككل على العالم أو انغلاقه .
4) الإمكانات المتاحة .
5) المستوى التعليمي و درجة الثقافة العامة .
6) مستوى الذكاء .
7) الهداية و التوفيق .
سبعة عوامل أقواها الأول و الأخير .
فالمعتقد الديني يؤثر في أهدافك و نمطية حياتك ككل , فالمسلم يهدف إلى إرضاء الله و الهندوسي يهدف إلى إرضاء البقرة و هكذا , و تشكل الإنتماءات العرقية و الطائفية و الوطنية و الفكرية ثالث أقوى المؤثرات و ذلك من خلال قراءة التاريخ القديم و الحديث و المعاصر .أمَّا المبادئ فلها تأثير حتى على النظرة و التقييم و الدافع و تشكل الإطار العام الذي لا ينبغي الخروج عنه أمّا الإمكانات فتشكل الفيصل في تحديد الأهداف فمن لا يملك مقومات الوصول لهدفٍ معين و لا يرى إمكانية امتلاكها في المدى المنظور فبلا شك سيلغي الهدف و سيفكر في هدفٍ آخر ممكن و قابل للتحقق فعلى سبيل المثل من لا يملك ذاكرة قوية فلا يمكنه نيل شهادة الدكتوراة في التاريخ , و يؤثر مستوى الذكاء تأثيراً مضحكاً على الأهداف فالذكي يختار الأهداف المرحلية الملائمة للوصول لأهدافه النهائية مما يسهم إسهاماً فعّالاً في الوصول بأسرع ما يمكن و بأقل جهد و تكلفة و أمّا الغبي فيختار الأهداف المرحلية غير الملائمة مما قد لا يوصل للهدف النهائي . و بلا شك فإنَّ الهداية و التوفيق من عند الله فمن يهده اللهُ يجعل رؤيته واضحة و يوفقه لاختيار الأهداف السليمة الصحيحة و العكس فإنَّ عدم التوفيق قد يجعل حتى الذكي و المتعلم يختار أهداف غبية . فقد قال الله :
( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا ) 17 الكهف
أذكر أني جلست ذات يوم مع أحد الملحدين و استمعت له جيداً بلا مقاطعة إلاّ التشجيعية منها للإسترسال أو الإيماء لنفس الغرض و كم أدهشتني محدودية أهدافه إذْ أوضح لي أنه يهدف للمال و الثروة و الزوجة و البيت و في النهاية قلت له و ماذا بعد ذلك فأجابني بجملة ( and that’s it ) , حاولت تغيير معتقداته ليقوم هو بتغيير أو توسيع دائرة أهدافه و لكن لم أحقق بعد ما أصبوا إليه و تجدر الإشارة إلى أنَّ أهداف الناس كثيراً ما تتأرجح بين بدائل متقاربة بسبب عدم ثبات الظروف المحيطة في حين تغشى الضبابية و عدم وضوح الرؤية على أهداف مجموعة كبيرة من البشر , إلى درجة أني سمعت كثيراً أحد الأشخاص يقوم (( و الله ما أعرف شو أسوي ؟ )) فهو لا يعرف ما هو هدفه في المرحلة القادمة و لا يعرف هل الهدف المرسوم يستحق عناءه أم لا ؟ و هل الهدف سيشبع رغباته أم لا ؟ و هل هدفه يتعارض مع مبادئه أم لا ؟ و هل تحقيق هدفه سيحول دون تحقيق الهدف الآخر أم لا ؟ و هل المدى الزمني المتاح يكفي لتحقيق الهدف أم لا ؟
سلسلةٌ من التساؤلات تراود ذهن الإنسان تصنع لديه الضبابية التي لا تقود لاختيار الهدف السليم لذلك فإنَّ الإنسان يحتاج في مثل هذه الحالات المشورة و الاسترشاد بالشورى ممن يستحق .
و أخيراً أختم مقالي ببيت للمتنبي الذي يقول :
و إذا كانتِ النـفـوسُ كِـباراً *** تَعِـبَتْ في مُرادِها الأجْـسامُ
المعنى : أنَّ الإنسانَ العظيم يضع لنفسهِ أهدافاً عظيمة تتناسب معه و إذا وضَعَ لنفسه أهدافاً كبيرة فلا شك أنَّ ذلك سينهكه للوصول إليها .
وفقني الله و إياكم لما فيه الخير
بو بطي 28/9/2010 الثلاثاء |