أولويات المبادئ بين النفاق و ضمور القيم
غالباً ما يعيش الإنسان الصراع الداخلي بين الخير و الشر بين الاستقامة و الهوى بين هداية الرحمن و نزغ الشيطان بين الأمل و المستطاع و لا يمكن تعميم نتيجة بالأغلبية فأحيانا ينتصر الخير على الشر و أحياناً ينتصر الشر على الخير .
هذا في الحياة الدنيا أمّا في الآخرة فلا ريب ينتصر الخير على الشر .
و لكن طالما لازلنا في الحياة الدنيا و لم نصل بعد للآخرة فإنَّ الحاصل تأرجح الانتصار بين الخير و الشر لحكمةٍ يعلمها الله جل جلاله مما يثير علامات الاستغراب لدى الكثيرين ... طالما أنَّ الله هو النور و الهدى و هو على كلِّ شيءٍ قدير لماذا يسمح الله للظلم أنْ يقع و الظالم أنْ يتمادى ؟
ما أعلمه هو أنَّ الحياةَ الدنيا ما هي إلاّ اختبار و نحن لا نحيطُ بشيءٍ من علم الله جل في علاه . قال الله سبحانه و تعالى:
" وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ " الرعد 31
كنتُ و لا زلتُ أعتقد أنَّ هناك الكثير من الأمور غير واضحة تمام الوضوح مما أسهم بقوة في تشكيل مبادئنا بصور مختلفة لاسيما في الأمور المباحة لأنَّ الدين أوضَحَ المبادئ التي يجب أنْ يتبنّاها المسلم و أولوياتها و لكن تظل كثير من الأمور الدنيوية المباحة عرضة للتباين الحاد في المبادئ بين إنسانٍ و آخر .
و لكي نتناول هذا الموضوع بشيءٍ من الشمولية وجب علينا تبيين ماهيّة المبادئ ؟
المبادئ جمع مبدأ و هي المعتقدات التي يؤمن بها الإنسان و التي تحدد الأطر التي لا ينبغي للمرء الخروج عنها ليصل إلى الهدوء و الاستقرار النفسي.
مثل توضيحي :
سطَّر الإيطالي ميكافيلي الذي عاش قبل 500 سنة نظريات و مبادئ عديدة أشهرها " الغاية تبرر الوسيلة " و قد تبنى الكثيرون هذا المبدأ عن قناعة فيما عارضه ذوو المبادئ السامية فهذا المبدأ سيتعارض بالضرورة مع الأخلاق الرفيعة .فالذي يؤمن بمبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " لا يجد حرجاً لأجل الحصول على المال مثلاً في انتهاج ما هو منافي للأخلاق و الدين للحصول عليه كأن يسرق أو ينهب أو يهرّب أو ينصب أو حتى يبيع أبناءه و الأمثلة كثيرة بينما يفضل الشرفاء الموت جوعاً على أنْ يأتوا بشيءٍ من ذلك .
كيف تتكوّن و تتشكّل المبادئ ؟
تتكون المبادئ و تتشكَّل بفعل البيئة و العقل .
1) بيئة البيت و المدرسة و الصحبة و الزمالة.
فمنذ السنوات الأولى من عمر الطفل يبدأ الطفل بالتعلم و اكتساب مبادئ الوالدين و العائلة مروراً بالمدرسة و الرفقة و الزمالة في العمل .
2) التجارب ( المحاولة و الخطأ و التكرار )
يخوض الإنسان العديد من التجارب الإجتماعية و التجارية و غيرها مما يجعل منها مسمار الحجّار الذي ينحت به منحوتته و هي المبادئ
3) الدين
فالدين يرسم الخطوط العريضة و الدقيقة للمبادئ التي يتوجّب على المسلم إتباعها في معاملاته و تعامله مع الآخرين و يعتمد ذلك اعتماداً كبيراً على مدى تديّن الإنسان .
يبقى العقل هو المرشّح ( المفلتر ) لمكتسباته من البيئة فيقبل ما هو مقنع و يرفض ما هو غير مقنع و هنا يدخل عاملان آخران على الخط ألا و هما الذكاء و التعليم .
فكلما كان الإنسان ذكيا كلما تقبّل المبادئ السامية و كلّما كان غبياً كلّما وقع تحت طائلة الصدفة و التردد في تبني ما هو صحيح .
و كلّما كان الإنسان متعلماً كلما كان أقدر على التمييز بين المبادئ السامية و المنحطَّة .
كل ما تقدَّم على افتراض السلامة العقلية في تحليل الشخصية الإنسانية . أمّا المختلون عقلياً فلا ينطبق عليهم ما سلف , سواءً أكان الاختلال هرموني أو نتيجة إصابة حادث أو كان الاختلال نتيجة مرض نفسي .
قبل بضع سنوات أجريت اختباراً على عددٍ من الأشخاص و كان الاختبار تحريرياً , و قد هدفت من خلاله إلى إثبات عدم تماثل ترتيب أولويات المبادئ عند البشر , كان الاختبار كالتالي :
* رتّب المصطلحات التالية حسب أهميتها لديك :
1) مصلحة العمل .
2) المصلحة الشخصية .
3) العروبة .
4) الإسلام .
5) الوطنية .
و قد خلصت إلى ثلاث نقاط مهمة جداً وهي :
أولاً : اختلاف أولويات المبادئ بين الناس .
ثانياً : اختلاف أولويات المبادئ للشخص الواحد إذا ما تعرض للاختبار مرتين أو أكثر بفاصل زمني معقول .
ثالثاً : النفاق في ترتيب الأولويات , و النفاق بمعناه العام هو الإظهار خلاف الإضمار و بمعناه الديني إظهار الإيمان و إضمار الكفر و العياذ بالله في أقصى درجاته .
و قد كانت نتائج الاختبار على النحو التالي :
|
خالد |
فواز |
عمر |
عبد الله |
صلاح |
مصلحة العمل |
2 |
3 |
1 |
2 |
5 |
المصلحة الشخصية |
4 |
5 |
2 |
1 |
3 |
العروبة |
5 |
4 |
5 |
5 |
4 |
الإسلام |
1 |
1 |
3 |
3 |
2 |
الوطنية |
3 |
2 |
4 |
4 |
1 |
و للتدليل على ما تقدَّم فقد كانت لابن خالي شركة مقاولات و كان يستقدم العمال الآسيويين فنبين لي أنَّ من بينهم ( غير مسلمين ) فسألته ذات مرّة ... لماذا لا تستقدم المسلمين فأنت عندما تستقدم مسلم فأنت تفتح بيت مسلم في بلدان يعاني فيها المسلمون من الاضطهاد و العكس صحيح ؟ فأجابني قائلاً بأنَّ العامل المسلم لا يعمل جيداً بالمقارنة مع غير المسلم و خصوصاً في رمضان .
خلصت من إجابته أنَّ ترتيبه لأولويات المبادئ كان مغايراً لما قد يصرَّح به علانية فقد فضَّل ( المصلحة الشخصية ) على ( الإسلام ) .
أعرف أحد الأشخاص أجريت عليه الاختبار و كانت إجابته أنّ الإسلام رقم ( 1 ) و ( الوطنية رقم ( 2 ) و ( مصلحة العمل ) رقم ( 3 ) و قد أتت ( المصلحة الشخصية ) في المرتبة الأخيرة , و دارت الأيام و أنا أراقب عن كثب فلمّا تقاطعت ( المصلحة الشخصية ) مع ( الوطنية ) اختار ( المصلحة الشخصية ) فتبسّمت لأنَّ ذلك ما كنت أحتاج إثباته و قد أثبت لي ذلك .
لماذا النفاق ؟
ورد عن رسول الله محمد صلى الله عليه و سلّم حديثاً يضم في محتواه أنَّ الناس يذهبون يوم لا ظل إلاّ ظل الرحمن إلى أبي البشر يطلبون الشفاعة فيقول نفسي نفسي و هكذا باقي الأنبياء إلى أن يأتون إليه صلى الله عليه و سلم فيقول أمتي أمتي . هذا ما سيكون نقلاً عن المصطفى صلى الله عليه و سلّم إلاّ أنني أرى أنَّ جل البشر يقولون ( نفسي نفسي ) في الحياة الدنيا قبل المحشر .
لم يكن هكذا الناس في الأزمنة الغابرة فقد كان الناس ذوي مبادئ صلبة و إنْ كانت خاطئة و لم تكن مرنة مطّاطية كما هو اليوم .
و بالمرادفة فإنّ ولاءات الكثيرين تتغيّر بتغير مراكز القوَّة , سبحان الله و كأنَّ القيم قد اختنقت بغبار المصالح أو دفع الضرر .
لا بد للإنسان أن يختلي بنفسه بين الحين و الآخر ليعرف مساره و يتأكد من نهجه و للتفكر في ماضيه بهدف الاعتبار للمستقبل . و لا بد أنْ يثبت على مبادئه رغم عواصف الإرهاب و التغرير و الاستقطاب , و في ذلك أذكر مقولة أحمد شوقي :
قـفْ دون رأيكَ في الحياةِ مُجاهدا *** إنَّ الحـيـاةَ عـقـيـدةٌ و جـهـادُ
و أخيراً أقول أنَّ على الإنسان أنْ يعيد ترتيب أولويات مبادئه بعيداً عن النفاق و ضمور القيم
مع خالص تحياتي و تقديري لذوي المبادئ السامية الصلبة
بو بطي الاثنين 1/11/2010 م
إذا كنت تنزيل المقال بصيغة بي دي أف فاضغط أدناه
|