علاقة البر بالتوفيق
إنَّ الله يسمع و يرى فهو السميع البصير . قال الله جل جلاله :
( سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) الإسراء 1
و كذلك فإنَّ اللهَ يعلم ما في القلوب من إيمان و نوايا و وسوسة فقد قال جل في علاه :
( إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ) الأحزاب 54
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ) ق 16
( لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ) البقرة 284
بعد أنْ أنهيت الثانوية العامة سنة 1987/1988 م و كنت قد سجلتُ في جامعة الإمارات العربية المتحدة التي تقع في مدينة العين أمضيتُ صيفاً جميلا كان ملؤه الشعور بالنجاح و ذات يوم قررت أذهب إلى العين لرؤية مبنى الجامعة و كان ذلك في شهر 8/1988 م آنها كانت الجامعة مغلقة الأبواب - إلاّ الأقسام الخاصة بالكورسات الصيفية - لحين استئناف الدراسة في العام الدراسي الجديد و كنت قد انقطعت عن العين فترة طويلة كان آخرها أواخر السبعينات و أوائل الثمانينات .
خرجت من البيت و توجهت من دبي إلى العين و أضمرت في نفسي أنْ لا أسرع على الخط بِـراً بوالدي رغم أنهما لا يعلمان بذهابي أصلاً و لكنني قلت مخاطباً نفسي أنهما لو علما بأنني أسرعت بالسيارة فإنَّ ذلك لاشك سيزعجهما و قررت أنْ تكون سرعتي في حدود 80 كم/س . أنا أعلم أنها سرعة منخفضة جداً و لكن كان اعتقادي أنني كلما خفَّضت السرعة أكثر كلما كان ذلك أبـرَّ لهما .
خرجت بين صلاة الظهر و صلاة العصر ... أمضيت وقتاً طويلاً حتى وصلت , وصلت قبل صلاة المغرب ولكن تاهت بي سيارتي حتى وجدتُ نفسي عند سوق الغنم و لم أعرف مكان وجود مبنى الجامعة , أوقفت السيارة و تلفتُّ يميناً و يساراً في حيرةٍ من أمري و كان المكان يعج بالناس ... ربما كان من في المكان أكثر من ثـلاث مِـئة شخص , وقع بصري على رجلٍ في تلك الزحمة فحدثني قلبي بأنْ أسأله هو دون غيره , فضربت له هرن فالتفت إلي معظم من بالمكان و كان الرجل من بين الملتفتين فأومأتُ له بيدي أنْ تعال لي , فأشار بيده إلى صدره و كأنه يريد أنْ يقول لي ... أنا .... فأجبته بنعم .
جاء يمشي إلى أن وَصَلَني فحادثته قائلاً : هل تعرف مكان الجامعة . فقال لي : نعم , و ماذا تريد بها . فقلت : أنا كنت قد سجلت لألتحق بها و لا أعلم إنْ كنت قبلت أم لا و لا أعرف مكانها و أريد رؤية مبنى الجامعة . نظر في وجهي ساهياً بضع ثوانٍ فسبَّح ربَّه ثم قال لي إفتح الباب ,, فتحت قفل الباب فركب ثم بدأ يوجهني للجامعة فيقول اذهب يمين ثم يسار و هكذا سألته خلال ذلك ,,, ما اسمك فقال لي : محمود فقلت له : و النعم .
في الطريق كان يسبح الله كثيرا و ينظر إلي ثم يعود إلى التسبيح ثم إنّي كلما سمعته يسبح سبحت ربي أنا أيضاً ثم قال لي : إنته ربنا بيحبك . لم أفهم مقولته . و ما هي إلى لحظات حتى وصلنا بوابة مبنى الجيمي و كان الحارس قد أغلق البوابة بالعصا الأفقية , فأشار محمود إلى الحارس بيده لفتح البوابة فرُفِعَت عصى البوابة فدخلنا ساحة مبنى الجيمي و أوقفني أما مبنى " القبول و التسجيل " فقال لي : تفضل . نزلت من السيارة و كان مبنى الجامعة خالياً إلا من بعض الطلبة الذي يأخذون ( كورس صيفي ) .
كان مبنى " القبول و التسجيل " مغلقاً . أخرج محمود ميدالية مفاتيح و وضع مفتاحاً في باب المبنى ففتحه و قال لي : تفضل . تبعته و كان المبنى من دور أرضي و ثلاثة أدوار علوية . مشينا في ممر كانت الغرف عن يمين و شمال الممر و هي كثيرة فوقف أمام الحجرة الثالثة في الممر من ناحية اليمين . اختار محمود مفتاحاً من نفس الميدالية و وضعه في الباب و فتح الباب , فسبَّحتُ باسم ربي الأعلى الذي خلق فسوى و الذي أخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى . فقال لي محمود : تفضل . فدخلت الحجرة و كان بها مكتبان فجلس محمود على إحداهما و قال لي : تفضل . جلست , ثم اختار مفتاحاً آخر من نفس الميدالية و وضعه في أحد أدراج المكتب و فتح الدرج . ثم قال لي : ما اسمك . فقلت له : محمد سيف محمد العتيبة . فأخذ يـبحـث بين الأوراق و بالبطاقات , فوجد بطاقة قبولي . فقال لي : مبروك أنت مقبول في كلية الزراعة . فسبحت ربي . فالآن عرفت لماذا كان كل ذلك التسبيح في السيارة .
أذن المغرب فذهبنا و صلينا في المسجد القريب من مبنى " القبول و التسجيل " و استأذنت محمود في الذهاب حاملاً معي بطاقة القبول و كلّي فرح متجهً إلى دبي .
عندما رجعت قصصت القصة على والدي ففرحا بها و بالقبول , و ظلت القصة تراود خيالي منذ 22 عاماً و حتى اليوم هذا الذي قررت فيه كتابة القصة و عرضها في الموقع .
ما جعلني أستغرب إلى درجة الاندهاش :
1) عدد سكان مدينة العين أكثر من 100,000 نسمة , كيف وقع اختياري على محمود مكاناً و زماناً ؟
2) عدد موظفي جامعة العين أكثر من 2,000 موظف , أيضاً كيف وقع اختياري على محمود مكاناً و زماناً ؟
3) محمود كان مصرياً و كان من المفترض أنْ يسافر فترة الصيف لبلده لرؤية أهله !!!
4) ما الذي سخَّر محمود لي في أنْ يغير تخطيط يومه و يكلف نفسه بكل ذلك العناء. فأحيانا يعرض الإنسان على صديقه الذهاب إلى المطعم لتناول وجبة غداء و لا يقبل معـتـذِّراً بانشغاله في أمرٍ ما . فتسخير الله لي شخصاً لا أعرفه كان في حد ذاته كافياً لاندهاشي .
5) محمود هو الشخص الوحيد الذي كانت حاجتي عنده من بين كل سكان مدينة العين .
تفكرت بعد ذلك كثيراً في ما حدث , لعلي أصل إلى ما تاه في نفسي فتبين لي أنَّ إضماري بر والدي عندما كنت متجهاً من دبي إلى العين كانت نتيجته توفيق الله عز و جل .
و من نقطة النهاية أعود إلى نقطة البداية فالله يعلم بالسر و العلانية و يعلم بما يدور في نفس الإنسان من نوايا حسنة أو نوايا سيئة و يعلم بوسوسته و يعلم بما في قلبه من إيمان أو كفر و العياذ بالله .
و في نهاية مقالي لا يسعني إلاّ أنْ أُنهيه بقول الله عز و جل فهو الحق و قوله حق .
قال الله جل في علاه العزيز الحكيم : ((وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفًا وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ )) البقرة 235
بو بطي الثلاثاء 2/11/2010م |